سورة السجدة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النُّفوسِ لا مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلاً عمَّن عداهم {مَّا أُخْفِىَ لَهُم} أي لأولئكَ الذين عُدِّدت نعوتُهم الجليلةُ {مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يقولُ الله عزَّ وجلَّ: أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ، بَلْهَ ما اطلعتُم عليهِ اقرؤا إنْ شئتُم، {فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرَّةِ أعينٍ}». وقرئ: {ما أُخفي لهم} و{ما نُخفي لهم} و{ما أَخفيتُ لهم} على صيغة المتكلِّمِ وما أخفى لهم على البناءِ للفاعلِ وهو الله سبحانه. وقرئ: {قُرَّاتِ أعينٍ} لاختلافِ أنواعِها. والعِلمُ بمعنى المعرفةِ وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلِّق عنها الفعلُ {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جُزوا جَزاءاً أو أُخفي لهم للجزاءِ بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ. قيل: هؤلاءِ القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه {لاَّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه والجمعُ باعتبارِ معنى مَن كما أنَّ الإفرادَ فيما سبق باعتبارِ لفظِها. وقولُه تعالى: {أَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جنات المأوى} تفصيلٌ لمراتبِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد ذكرِ أحوالِهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل: المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّاتِ، وأياً ما كان فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافِيهم عن مضاجعِهم التي هي مأواهم في الدُّنيا {نُزُلاً} أي ثواباً وهو في الأصلِ ما يعدُّ للنَّازلِ من الطَّعامِ والشَّرابِ وانتصابُه على الحاليَّةِ {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ أو بأعمالِهم.


{وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي خرجُوا عن الطَّاعةِ {فَمَأْوَاهُمُ} أي ملجأهُم ومنزلُهم {النار} مكانَ جنَّاتِ المأوى للمؤمنينَ {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا} استئنافٌ لبيانِ كيفيةِ كونِ النَّارِ مأواهم. يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً وكلمةُ فِي للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ {وَقِيلَ لَهُمْ} تشديداً عليهم وزيادةً في غيظِهم {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ} أي بعذابِ النَّارِ {تُكَذّبُونَ} على الاستمرارِ في الدُّنيا {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى} أي عذابِ الدُّنيا وهو ما مُحِنُوا به من السَّنةِ سبعَ سنينَ والقتلِ والأسرِ {دُونَ العذاب الاكبر} الذي هو عذابُ الآخرةِ {لَعَلَّهُمْ} لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياةِ {يَرْجِعُونَ} يتوبُون عن الكفرِ. رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضيَ الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} بيانٌ إجماليٌّ لحالِ من قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ. وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإعراضِ عنها عقلاً مع غايةِ وضوحِها وإرشادِهم إلى سعادةِ الدَّارينِ كما في بيتِ الحماسةِ:
وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّة *** يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزُورُها
أي هو أظلمُ مِن كلِّ ظالمٍ وإن كان سبكُ التَّركيبِ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرُّضٍ لنفيِ المُساوي. وقد مرَّ مراراً {إِنَّا مِنَ المجرمين} أي من كلِّ منِ اتَّصف بالإجرامِ وإنْ هانتْ جريمتُه {مُنتَقِمُونَ} فكيفَ ممَّن هو أظلمُ من كلِّ ظالمٍ وأشدُّ جُرماً من كلِّ مجرم.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} أي التَّوراةَ عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفُرقانِ والتنبيهِ على أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كإيتائِها لمُوسى عليهِ السَّلامُ {فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ} من لقاءِ الكتابِ الذي هو الفُرقان كقوله: وإنك لتلقَّى القرآنَ والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل: من لقاءِ مُوسى الكتاب أو من لقائِك مُوسى وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كأنَّه من رجالِ شنوءة» {وجعلناه} أي الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى {هُدًى لّبَنِى إسراءيل} قيل: لم يُتعبدْ بما في التَّوراةِ ولدُ إسماعيلَ.


{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} بقيتهم بما في تضاعيفِ الكتابِ من الحُكم والأحكامِ إلى طريقِ الحقِّ أو يهدونَهم إلى ما فيهِ من دينِ الله وشرائعِه {بِأَمْرِنَا} إيَّاهم بذلك أو بتوفيقِنا له {لَمَّا صَبَرُواْ} هي لما التي فيها مَعنى الجزاءِ نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتنِي. والضَّميرُ للأئمةِ تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحينِ أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقِّ الطَّاعاتِ ومقاساة الشَّدائدِ في نُصرةِ الدِّينِ أو صبرُهم عن الدُّنيا. وقرئ: {لِمَا صبرُوا} أي لصبرِهم {وَكَانُواْ بئاياتنا} التي في تضاعيفِ الكتابِ {يُوقِنُونَ} لإمعانِهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتِك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهدايةِ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} أي يقضِي {بَيْنَهُمْ} قيل: بينَ الأنبياءِ وأممِهم وقيل: بين المؤمنينَ والمشركينَ {يَوْمُ القيامة} فيميِّزُ بين المُحقِّ والمُبطلِ {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمورِ الدِّينِ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} الهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على منويَ يقتضيهِ المقامُ من فعل الهداية. إما من قولهم: فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ بلا ملاحظةِ المفعولِ وإمَّا بمعنى التَّبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي أغفلُوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم أو ولم يبيِّن لهم مآل أمرِهم كثرةُ إهلاكِنا {مِن قَبْلِهِمْ مّنَ القرون} مثلُ عادٍ وثمودٍ وقومِ لوطٍ. وقرئ: {نهدِ} لهم بنونِ العظمةِ وقد جُوِّز أن يكونَ الفاعلُ على القراءةِ الأولى أيضاً ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا} الخ، استئنافاً مبيِّناً لكيفيَّةِ هدايتِه تعالى {يَمْشُونَ فِى مساكنهم} أي يمرُّون في متاجرِهم على ديارِهم وبلادِهم ويشاهدُون آثارَ هلاكِهم. والجملةُ حالٌ من ضميرِ لَهُم. وقرئ: {يمشُون} للتَّكثيرِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من كثرةِ إهلاكِنا للأممِ الخاليةِ العاتيةِ أو في مساكنِهم {لآيَاتٍ} عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز} أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّةِ وقيل: هو اسمُ موضعٍ باليمنِ {فَنُخْرِجُ بِهِ} من تلك الأرضِ {زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ} أي من ذلك الزَّرعِ {أنعامهم} كالتِّبنِ والقصيلِ والورقِ وبعضِ الحبوبِ المخصوصةِ بها. وقرئ: {يأكلُ} بالياءِ {وَأَنفُسِهِمْ} كالحبوبِ التي يقتاتُها الإنسانُ والثمارِ {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به على كمال قدرتِه تعالى وفضله.

1 | 2 | 3 | 4